خرجت من مستشفى الدكتور حسنى فى حى عابدين ذات ليلة من ليالى الشتاء .. وركبت الترام رقم 17 الذاهب إلى السيدة زينب لأصلى ركعتين لله فى المسجد الكبير تعبدا وشكرا له فى عليائه .. على نجاة والدى من العملية الجراحية الخطيرة التى أجريت له فى العصر واستمرت أربع ساعات كاملة .. وكان الأمل فى النجاة ضعيفا .. إلى حد أن الطبيب نفسه كان مترددا .. ثم توكل على الله وصلى ركعتين قبل أن يرتدى المعطف الأبيض .. ويدخل من باب حجرة العمليات .
وقد ركبت الترام .. وقلبى يتجه إلى الله .. لأصـلى ركعتين مثـله فى المسجد الكبير .
وكانت الليلة شديدة البرودة فاحتبس الناس فى البيوت من الغروب .. وكان ركاب الترام متفرقين فى المقاعد الخشبية .. وقليلين جدا إلى حد أننى كنت الراكب الوحيد فى المقصورة المخصصة للدرجة الأولى .
ووقف مع الكمسارى فى خارج المقصورة مما يلى السلم مباشرة .. رجل كبير الجسم عظيم الكرش أخذ يثرثر معه حتى استغرق الكمسارى فى الحديث مع الرجل .. ونسى الركاب وقطع التذاكر .
ولما نزل الرجل الضخم من الترام فى الدوران .. تحرك الكمسارى إلى نهاية العربة ثم ارتد .. وهو يقرع على حاملة التذاكر الخشيبة لينبه الركاب بقلم من الرصاص فى يده .. وكان بادى المرح رغم البرد الشديد ومشقة العمل و" زوغان " بعض الركاب دون دفع الأجر .
وفى شارع الشيخ ريحان ركب من السلم الخلفى القريب منى رجل عجوز ووقف فى المكان المخصص للوقوف .. فأسرع إليه الكمسارى وهو يقرع بالقلم على ظهر حاملة التذاكر .
ـ تذاكر .. يا عمى الشيخ ..
ـ والله .. يا ابنى مـــا اسـتفتحت .. وسأركب محطة واحدة ..
ـ محطة واحدة .. يا شيخ ابراهيم ..؟
ـ أجل .. وما ركبت يا ابنى إلا بعد أن مزقنى التعب ..
ـ اخرج من الزلع المدفونة تحت البلاط .. يا شيخ ابراهيم .. اخرج !
ـ الزلع ..؟
ـ نعم الزلع .. وانك لتمتلك .. أربع عمارات فى الحى ..
ـ أنا ؟
ـ أى .. والله ..انت ..
ـ سمع الله منك .. وأعطانى .. من الذى يكره الغنى ..
ـ وضحك الشيخ إبراهيم حتى بدت نواجذه ..
وكان ناحلا رقيق الحال .. وقد بدت عظـامه وذهب لحمه .. وأحنت السنون ظهره .. ويلبس جبة سمراء من الصوف المغزول .. وقفطانا أخضر من الحرير المخطط بخطوط خفيفة ..
وكان الثوبان اللذان على جسمه مهلهلين وأكمامهما واسـعة وممزقة ..وظاهر جدا من اتساع الطقم أنه لم يصنع له .. ولم يفصل على قد جسمه ..
وكان يرتعش من الشيخوخة .. وقد بدا من عينـيه الكليلتين أنه يرى بصعوبة ..
وكان ممسكا ببعض المصاحف الصغيرة وكتب الاوراد .. والأدعية الدينية .. وواضعا هذا كله فى محفظة بالية عليها آثار العرق القديم ..
وتأثرت لرقة حال الشيخ العجوز وأشفقت على شيخوخته .. وكنت أود أن أدعوه للجلوس .. بجانبى لولا أننى وجدته يهم بالنـزول ..
فأخرجت ورقة بخمسة وعشرين قرشا بسرعة من جيبى وكورتها .. ثم وضعتها فى يده .. فردها بقوة بكل جسمه .. وعيناه مخضلتان بالدمع ..
فأعدت الورقة المالية ووضعتها فى يده .. وفى هذه اللحظة تحرك الترام بى وبعدت عنه .. وأبقى العجوز الورقة فى يده وهو ينظر إلى ما حوله فى حيرة .. وظل واقفا فى مكانه على المحطة بضع ثوان ثم تحرك فى تثاقل ..
وبعد أن سار الترام فى طريقه بضعة أمتـار توقف لعطلة فى الطريق .. فخطر ببالى سريعا أن أتبع الرجل العجوز .. وأعرف إلى أين يمضى فى الليل .. هل سينام فى جدار إحدى عماراته .. أم فى جدار مسجد ..
وأسرعت راجعا حتى بصرت به من بعيد .. ماشيا فى تثـاقل كعادته ..
ومشيت وراءه وهو لايشعر بى فى شارع الخليج حتى وجدته ينحرف إلى اليمين فى حـارة قواوير إلى زقاق ضيق مسـدود .. لاتزال بيوته القديمـة بمشربياتها وشرفاتها الخشبية بادية للعيان ..
وقرع بابا قديما ووقفت على مبعدة منه أراقبه .. والظلام لايجعلنى أتبينه بوضــوح .. فلم يرد عليه أحد .. فعاود الطرق ..
وبعد لحظات برزت من الداخل امرأة عجوز تلبس السواد .. خرج معها متعلقا بثوبها طفلان .. ينظران إلى الطارق .. وقد برقت أساريرهما .. ورأيت فى نظرات الثلاثة المعرفة والسرور .. بلقاء الرجل ..
وأمد الشيخ إبراهيم للمرأة العجوز .. بالورقة المالية التى أعطيتها له .. من ربع الساعة ..
ـ ما هذا كله .. يا شيخ ابراهيم ؟
ـ رزق الأولاد ساقه الله اليهم ..
ـ وأنت .. هل تعشيت ..
ـ نعم .. تعشيت والشكر لله ..
وشكرته المرأة .. بقلب حار .. معترف بالفضل .. وحيـاها الرجل وانصرف فى الطريق .. منكسا رأسه وحاملا المصاحف والكتب الدينية ..
وعندما اقترب من مسجد السيدة زينب جلس على البـاب يعرض بضـــاعته على الداخلـين والخارجين من باب المسجد ..
واشترى منه عابر طريق مصحفا .. ووضع خمسة قروش فى يده ..
ورأيت العجوز يتحرك فى الميدان بسرعة .. ويشترى رغيفا واداما .. ويجلس فى جدار المسجد يتعشى ووجهه يفيض بالسرور ..
وعندما دخلت المسجد لأصلى كانت صورة العجوز الإنسان لاتزال فى ذهنى .. ودعوت الله أن يمد فى عمره لأنه ينبوع خير للإنسانية .
------------------
نشرت القصة عام 1966 فى المجموعة القصصية " مساء الخميس " لمحمود البدوى